
النوستالجيا العامّة: هذا الخداع اللذيذ الذي لا يغادر (1 من 2)
الجورنال(JNA)
كتب: عقيل عباس
في المزاج العربي العام تظهر النوستالجيا بحدة، غالباً ما تتناسب عكسياً مع حجم الإخفاقات العربية في السياسة، خصوصاً في سياقات المواجهة مع الآخر وفشل الذات في صناعة تجارب أفضل. في معناها الحديث الشائع، تشير النوستالجيا إلى الحنين إلى أزمنة سابقة مثالية أو ذهبية حين كانت الأشياء والأشخاص كما ينبغي لها أن تكون: في انسجام تام مفترض مع وظائفها ومعانيها!
يسترجع الإسلاميون، بتنوعاتهم السنية والشيعية والسلفية وغيرها، زمناً ذهبياً يعود إلى عقود الإسلام الأولى حيث النسخة النقية والصافية للإيمان بالالتزام الواسع والطوعي بها، ويسترجع القوميون الحانقون على العجز العربي بإزاء إسرائيل عصر صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس في القرن الثاني عشر من السيطرة الصليبية التي دامت أقل من تسعين عاماً. يفعل الأمر نفسه كثير من المحافظين الاجتماعيين في كل زمان تقريباً، عبر إصرارهم على أن الماضي أفضل من الحاضر بالتزام الناس في ذلك الزمن بالخلق الرفيع بعضهم بإزاء البعض الآخر، ومراعاة الجار لحقوق جاره وحفظ المرء وعده وسواها من أمثلة الأخلاق الحميدة والعادات الطيبة والنبل الإنساني التي يعتقد هؤلاء المحافظون أنها مفقودة في أيامنا هذه. في سياق مختلف، يحن اليوم عراقيون وتونسيون لأزمنة مستبدّيهم، صدام حسين وزين العابدين بن علي، حيث الانضباط والصرامة واتباع القانون خوفاً من سطوة الدولة بعيداً من السوء الحالي الذي تسوده الفوضى والانفلات والسرقة وضعف الدولة وتردي الخدمة العامة.
ترسم كل أمثلة الحنين إلى الماضي هذه سيناريوهات مثالية متخيلة عن زمن ذهبي غادرنا وغادرت معه الأشياء الصحيحة والوقائع المناسبة أو الأقل سوءاً. في صناعة هذه السيناريوهات يمارس العقل المدفوع بقوة النوستالجيا الكثير من الانتقاء والتحوير والتجميل كي يزيل، أو يخفف، عن تلك الأزمنة الماضية المتخيلة، سوءها ومشقاتها والحقائق الأخرى المضادة التي تقوض صورتها المثالية المفترضة.
لم تبدأ النوستالجيا هكذا في السجل الموثق للمعرفة الإنسانية: حنيناً بريئاً وتلقائياً للمحبطين من الأزمنة الحالية في بحثهم عن حلول متخيلة لإعطاب هذه الأزمنة في ماض يُعاد تشكيله كي يتسق مع هذه الحلول حيث تستبدل العواطف الوقائع وتتحكم بها. في توثيقها الأول في القرن السابع عشر، فُهمت النوستالجيا على أنها مرض نفسي يهدد سلامة الجيش وقدرته على خوض الحرب بكفاءة. يوهانس هوفر، طالب الطب السويسري، الذي صاغ المصطلح في 1688 في أطروحة تخرجه طبيباً من الجامعة، أشار إلى أن هذا المرض ينشأ من “خيال مُبتلى” بسبب “اهتزاز مستمر” يصيب الدماغ لا يمكن علاجه إلا بالعودة إلى الوطن أو مواجهة احتمالات الموت. اعتمد الرجل في تشخيصه هذا على حالات جنود سويسريين كانوا يقاتلون في الجيش الإسباني حينها بعيداً من وطنهم.
على مدى القرنين التاليين، الثامن عشر والتاسع عشر، تعامل الأطباء مع النوستالجيا كمرض يصيب الجنود على نحو خاص، ويقود إلى الاكتئاب وفقدان الشهية وضعف الجهاز المناعي وصولاً إلى الموت أو الرغبة في الانتحار وتزداد الإصابة به في فصل الخريف. رغم أن الفهم المبكر في تشخيص “النوستالجيا” كمرض نفسي له عوارض عضوية شملت أيضاً العاملين المدنيين في أماكن بعيدة من أوطانهم كالبحارة والنساء في الخدمة المنزلية، انصب الاهتمام الطبي حينها على الجانب العسكري لمنع هذا “المرض الجديد” من تقويض قدرة الجيوش على القتال. تضمنت العلاجات المقترحة للمرض تفريغ المعدة وتناول الديدان وإرعاب الجنود الذي اعتبر العلاج الأسهل والأفضل لطرد المرض من الجسد كما في تهديدهم أحياناً بالدفن أحياءً في حال ظهور المرض عليهم!
على امتداد القرن التاسع عشر وفي سياق بروز الثورة الصناعية وهجرة أعداد كبيرة من الفلاحين من قراهم إلى المدن للعمل كأُجراء في المصانع وتحمل قسوة العيش في إطار رأسمالية مبكرة، جشعة ومتوحشة، بدأت “النوستالجيا” تفقد تدريجياً طابعها الجسدي كمرض في الأوساط الطبية لمصلحة تحولها إلى تجربة عاطفية تتعلق بأحاسيس التهميش الناتجة من اضطرارات اقتصادية وحرمانات إنسانية. ارتبطت هذه الأحاسيس بالانقطاع المؤلم الذي عاناه هؤلاء الفلاحون بسبب اضطرارهم إلى مغادرة مواطنهم الأصلية حيث للمرء ذات فردية تتمتع ببعض الإقرار الاجتماعي والإنساني في السياق الريفي الزراعي، للعيش في مدن قاسية في ظروف عمل وسكن سيئة، بضمنها العمل ساعات طويلة. كان الحنين قوياً بينهم لتلك المواطن، لتظهر تمثلات كثيرة لهذه النوستالجيا في الكتابة الأدبية والخيال والقصص والفن الشعبي. هكذا أصبحت النوستالجيا تجربة في اللغة وخيالاتها وتحولاتها وليس في الطب واضطرابات الجسد.
سواءٌ في استخدامها الطبي الجسدي أو الحسي اللغوي، تشترك النوستالجيا في معناها بأصلها اللغوي اليوناني المرتبط بألم العودة إلى الوطن أو البيت.
في السياق السياسي الشائع عربياً، كما في ثقافات سياسية أخرى مرت دولها بتجارب فشل عميق، توفر النوستالجيا هروباً مريحاً تصنعه المخيلة من الوقائع المريرة الضاغطة على المجتمع أو جماعات فيه، لتكون بذلك أحد إعلانات العجز عن تغيير هذه الوقائع. على هذا النحو، تمثل النوستالجيا سلباً ناعماً للفاعلية الإنسانية للمرء في لحظته الحالية وتأجيلاً محتملاً لتشكيل وقائع محسوسة مضادة للفشل، وليس هروباً منه. يمثل هذا الهروب أحد الأسباب المهمة التي تجعل معظم الثقافة السياسية والشعبية العربية ماضوية الطابع: استثمار دائب ومستمر في التاريخ بحثاً عن مساحات الراحة وإمكانات تفسير الحاضر عبره.
في السياقات النادرة المرتبطة بالرغبة ببناء الفاعلية الاجتماعية التي تمثل الجانب الأهم في الاشتغالات الجماعية للنوستالجيا، كانت النتيجة انعزالاً عن العالم المعاصر وارتياباً فيه حد مواجهته، دموياً أحياناً، كما في بروز الهوياتية في حركات الإسلام السياسي الشيعية والسنية وفي نسخ كثيرة من القومية العربية.
أنبل أنواع النوستالجيا وأكثرها جدوى هي حنين المرء لأشيائه ووقائعه الماضية، في إطار استرجاع الذات ومراجعتها والتفاوض معها. تحويل هذا الحنين شأناً عاماً وربطه بحل مشكلات عامة أو تجاوز فشل جماعي، يؤدي عادةً إلى الإضرار بالمصلحة العامة ويُفقد إحدى أعمق التجارب الإنسانية معناها الحقيقي المتصل بعلاقة الإنسان بنفسه وتأمله المستمر فيها